عين لبلاد

 

" عين لبلاد " ...منبع الماء..و الحياة..

    أصل البليدات الواحة و أصل الواحة الماء... نعم ،هكذا فهم أجدادنا و آباؤنا الكبار شروط الاستقرار و أدركوا معاني الماء فبحثوا عنه في كل المرتفعات و حفروا أعالي الروابي...



 

لقد ظهرت عدة عيون هنا و هناك، و انساب الماء في السواقي ليغمر الأرض و يبعث الحياة..

و السؤال هو معرفة أسباب اختيار – أول من سكن بهذه الأرض – المرتفعات لحفر العيون... بالتأكيد إنها هي الأقرب لطبقات الماء و الارتفاع يضمن الانحدار و يسهل تهيئة الأرض أي " تذويب " كثبان الرمال المحيطة و ييسر عملية الري.. فخلت أجدادنا الأوائل مهندسون في محيطهم..و يمكن للمتأمل الآن أن يلاحظ بكل يسر أن أغلب واحات البليدات توجد حول عيون طبيعية قديمة هي بمثابة النواة الأولى للانتشار الحقول و امتداد المزارع التي أحاطت بمصدر الماء في شكل شعاعي... لكن لا يمكن في هذا المجال الحديث عن كل منابع بل سوف نعود بالذاكرة.. ذاكرة من سألتهم إلى الحديث حول إحدى العيون، فاخترت التطرق لـ" عين لبلاد "...



 

 لقد أغلب الشيوخ على أنهم عرفوا هذه العين منذ نعومة أظفارهم... لقد نشأوا تحت ظلال نخيلها و لعبوا بثرى تربتها و تبردوا بمائها..

من هنا نبدأ الحكاية و نمسح غبار الماضي عن الذاكرة الشعبية... لقد قالوا و أكدوا أن " عين لبلاد " كانت عاملا أساسيا في استقرار العديد من العائلات الرحل.. إذ وجدوا في دوام الماء دوام الزراعة و تواصل القوت.. فشرعوا في جمع الحجارة و بنوا المساكن في الجهة الغربية من العين أما بقية الأراضي فقد قسمت على شكل أشرطة " إحبال " لغراستها و تعميرها..



كانت " عين لبلاد " ذات شكل دائري تحيط بها أصول نخيل متنوعة كل مجموعة من النخيل تسمى " عش نخيل " وهي على ملك عائلة من عائلات البليدات وهو ما يبعث على الإفتراض أن مصدر الماء لم يكن ملك لشخص أو لمجموعة أكبر بل هي عين ماء للجميع تعاونوا على حفرها و اتفقوا على مواصلة تنظيفها و صيانتها و توسيعها كلما غمرتها الرمال الزاحفة..

فعلا " عين لبلاد " أم الجميع رسخت في أذهان أجدادنا معاني التعاون و أبعاد المصلحة العامة منذ زمن بعيد.. و نحن حريصون على المحافظة على هذه المبادئ لننعم بفضائلها     و نجني ثمارها...

نعود لـ" عين لبلاد " حيث تبدأ الحياة في البليدات مع بداية كل يوم جديد..فقبل بزوغ الشمس تسمع أول الحركة هناك عندما ينزل الآباء للوضوء استعدادا لصلاة الفجر، بعدها و مع بداية بشائر الصباح يتجه الفلاح " بمسحاته " نحو العين لـ " يهد " الماء، فتنطلق المياه في الساقية و تبدأ الحياة من جديد بعد سكون الليل الذي لا يقطعه إلا نقيق الضفادع و أصوات الطيور التي اتخذت من رؤوس النخيل أوكارا لها... تبدأ الحياة بعد أن تتبدد ظلمة الليل و تتفكك كثافة ظلال النخيل.. إذ تتسلل خيوط الشمس بين سعفات الجريد حتى تصل مياه العين و تنعكس على سطحها و ترسل شعاع ضوء جميل في كل الاتجاهات يزيد العين رونقا و بهاء.



 

أما مع الضحى فتأتي النساء و الصبايا بقلالهن و يجتمعن حول إحدى سواقي العين التي أعدت على شكل حنفية لملإ الماء.. فيسلمن على بعضهن و يتبادلن التحايا ثم يتجاذبن أطراف الحديث حول أخبار البلاد و جديد العائلات.. يتساءلن عن المريض و يباركن المسرات...

هكذا يكون لقاء النساء على عجل ليعدن إلى منازلهن و على ظهورهن القلال و " القرب " ملأى ماء..

هذه هي الحياة حول العين في أول النهار أما مع بداية الزوال ينزل الرجال إلى العين.. يجلسون تحت ظلال نخيلها في مجموعات صغيرة و كبيرة.. يجتمعون دون سابق إعداد فيتحدثون عن مصالحهم و يطرحون بعض الصعوبات التي يواجهونها.. هكذا كانت العين نقطة الانطلاق إلى كل " الحبال " وهي مقصد كل العائدين من حقولهم لابد أن يمروا بالعين للاغتسال من تعب النهار.....     و الاستراحة قليلا..



 

هنا أيضا يتقاسم عدد من الآباء شاة كلما رغبوا في شراء نصيب من اللحم، يتقاسمون الذبيحة في إطار " حسّابة " يذبحونها و يضعونها فوق أجزاء من الجريد الأخضر و إذا ما احتاجوا إلى غسل أحشائها فالماء في العين قريب...

في فصل الصيف يتعاظم دور " عين لبلاد " إذ يتوجه إليها أغلب أهالي البلاد فهي ملاذهم من حر المناخ يقضون كامل القيلولة هناك فمنهم من ينزل للماء " ليتبرّد " و منهم من يبلل برنسه أو " لفافته " و يختار مكانا كثيف الظل، باردا لينام. كما يمكن أن يجلس البعض تحت ظلال النخيل و يشرع في إنجاز " ظفيرة " من سعف الجريد ليصنع منها فيما بعد القفاف و غيرها...أما الشباب فغالبا ما يقضون كامل وقت " القايلة " في لعبة " الخربقة " و خاصة لعبة "البناية " إذ يستدعي بناء هذه اللعبة التربة المبللة كما تحتاج إلى أربع قطع صغيرة من الجريد الأخضر " سيق ".



 

في العين أيضا ينزوي الأصدقاء تحت نخيلها للتصالح إذا ما تخاصموا.. كما يتوارى الأتراب بين جذوع " أعشاش " النخيل ليتبادلوا حكايات الشباب و أحلامهم القريبة و البعيدة...

هكذا كانت " عين لبلاد " فضاء حيا متحركا بكل مكوناته...

فعلا " عين لبلاد " منبع الماء، و أصل الحياة لقد كانت وفية لأبناء البليدات كانت تتواصل معهم، قريبة منهم، لا تميز بينهم بل تستقبلهم جميعا بأفراحهم و أتراحهم.. في المسرات تستقبل العريس ليحجب هناك مع أصدقائه طوال النهار وهي أيضا حاضرة في المآتم فهي مصدر الماء " لرش " قبر الميّت.

لقد كانت أحسن شاهد على حياة قرية بكل ما فيها.. كما أنها أفضل فسحة للنفوس، يرتاح فيها الجميع بفضل مائها الذي يشع نورا و حواشيها المخضرة بخضرة نبات الماء حتى أنها مثلت في السنوات الماضية قبلة السواح من كل أنحاء العالم.



 

تحدث بعض من الآباء و على محياهم علامات الحسرة لا شك أن العديد منهم قد وقفوا على أطلال هذه العين.. أما أنا فقد عشت معهم أتصور إمكانية إحياء " عين لبلاد ".. و لولا صعوبة إيجاد الماء لأمكن تجديدها لتستعيد دورا من أدوارها في شكل منتزه أو استراحة طبيعية...لعلّه يصبح ممكنا.. من يدري؟

                                                                     


 


 
free counters

 

 


 
أنشر الموقع على الفيس بوك
 
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement