من الذاكرة الشعبية

زيارة المغْبي يوم العيد




ضريح الولي الصالح عبد الله المغبي

 

عبد الله المغْبي و ليٌّ... ضريحه غير بعيد عن قريتي تزوره النّسوة عند إلتقاط الحطب اليابس المتخذ للوقود.. تزوره إحداهنّ لتعده بشاة عند تحقق إحدى رغباتها.. و قد يزرنه و يطفن به لمجرّد التبرّك.. ثمّ يعدن حاملات حزم الحطب مغنيات تارة نائحات طورًا...

هذا الولي له يوم العيد موعد مع الزوار يأتونه عند الضحى أو بعد الظهر .. جموعا حاملين الدفوف الوترية و الدرابك و قد يصحبهم أحد الزكارين.. و أشهرهم محمد الحدّاد... برع في نفخ الزّكرة ( يعني المزمار) حتي أنّه كان يتحزّم و يمسك آلته بيد واحدة بينما تبقى الأخرى طليقة لتساعد على تقديم رقصات في منتهى الرّوعة و الجمال.. فيتحمّس أحد الشبّان وينبري راقصا.. يقدم حركات لافتة للنظر..

و يستمر الموكب في طريقه إلى سيدي عبد الله المغبي .. حتى إذا وصلوا إلى ربوة تحيط بعض الشجيرات من الباقل و الرتم و الزيته..حطوا الرّحال و بدؤوا بالطواف حول ضريح الوليّ.. ثم يتفرّقون بين كثبان الرّمال و شجيرات الرّتم حتّى إذا استراحوا وقاموا بواجبهم تجاه وليّهم .. قاموا ليطوفوا بالضريح مردّدين .. "جينا زايرين نروحوا نايرين".. ثم يأخذون طريق العودة نحو القرية.. وإلى عيد آخر...

 

  

طواف العريس حول عبد الرّحمان


 سيدي عبد الرحمان..وليّ على حافة الجبّانة ممّا يلي عين البلاد .. ولا يفصل الضريح عن العين القديمة غير ممرٍ ضيق يسلكه الذّاهبون من أعالي القرية إلى "الڤيطنة" الشرقية.. هذا الوليّ له موعد مع كلّ عريس ليلة دخوله على زوجته.. موكب العريس يأتي من بعيد حافلا بالمغنيات المزغردات وعند الوصول إلى ضريح الوليّ المقصود تبدأ أخت العريس بوضع الكحل بعيِْنيْ أخيها.. ثم يشرع العريس في الطّواف بقبر سيده عبد الرحمان سائله أن يكون معه هذه الليلة فهو الذّي سيرفع عنه الحرج و الحياء و بذلك تتحقق رجولته و فحولته.. هذا الاعتقاد استمر طويلا في نهاية كلّ عرس.. حتّى انتشرت ثقافة العقول وانتشر الوعي بين الشباّن و الشّابات فبطل الاعتقاد الخاطئ.. و صار العريس و أصحابه ينطلقون من أحد مساجد القرية مردّدين قصيدة البردة..

 يا ربّي صلّ و سلّم دائما أبدا       على حبيبك خير الخلق كلّهم


تحميل المقطع


... و تبخّرت كل تلك الأوهام الملقاة على كاهل الوليّ ... وإذا المخاوف كلّهن أمان.   


المقبرة الحديثة

  

إحتفالات عاشوراء

بداية من أواسط شهر ذي الحجة (عيد الكبير) تبدأ سهرات عاشوراء ..يتوافد الكثير من أبناء قريتي و بناتها على "الرّحِيبَة" بأعالي القرية و راء حوش دار عبد المؤمن بعد أذان العشاء .. البنات يحاذين جدار الدار المذكورة فيظهرن بلباسهن الأسود مجموعة كبيرة لا تفرّق فيهنّ بين هذه أو تلك.. اليافعات منهن يعرفن بقطعة قماش بيضاء تغطي الرأس و تنزل إلى أسفل من الوراء وهي شارة الفتاة التي لم تدخل في عداد المتزوجات بين العاشرة والعشرين من عمرها..

أغان كثيرة تختلط الألحان فيها فلا تفرّق بين كلماتها إلا عند طول الإصغاء. عرفت وأنا صغير بعض هذه الأغنيات الخفيفة و يطلق عليها ( شبراش) إحدى هذه المقطوعات تقول: "حبُوه يا حبُوه الفڤْرِي ما نبغوه.. نبغِي مولى الناڤة..الخرُص و العلاڤة حتّى فيه شڤاڤة..نطلب ونداويه" تردّ عليها أخرى: "الفڤْري خَبَاره ..يا مكْحول أنظاره و الملْيانه داره..وين تتلڤيه ..حبوه .. حبوه.."..إلخ

مقطوعة أخرى تقول: ڤمره يا وڤّاده ..الغالي وين بلاده... و أخرى تقول: كلماتها وهي مقطوعة نضمتها أمّ على لسان ابنتها الصغيرة تتمنى فيها أن ترى أخاها الغالي.. وهي أشواق أم اكتوت بنار فراق ابنها فأنشأت تقول على لسان ابنتها:

تمنّيتْني طير جالي    نوصل ابْن أمّي الغالي

و هذا الابن المهاجر يسمّى أحمد..تقول الأم:

"يا أحمد وحشك فراڤـَـك نِكدْ تاسع سِنِي بالعدد...و راس أخْواتي راس مالي تمنتْني طِير جالي.."

تحميل الأغنية


وتزدهر ألعاب عاشوراء فتقدم بها إسكيتشات قصيرة هزليّة. منها اسكيتش "شباني عاشوره و الصّيد" و قد اشتهر بتمثيل دور شباني عاشوره المرحوم محمد بنعثمان بن احمد..و تستمر حفلات عاشوراء حتى نهاية الشهر الثانى عشر (ذي الحــجة) و عشرة أيّام من محرّم..و هو الشهر المسمّى بعاشوراء. ليلة اليوم العاشر يلفّ كثير من قطع القماش القديم على عمود خشبي خفيف الحمل يسمّونه "بو هرّوس" و يعمد خليط ممن حضروا عاشوراء إلى الجهة الشمالية الغربية من البلدة..حاملين الهيكل الملفوف ويرمونه بهذه الجهة المسمّاة آنذاك بالطّرافي..و عند تحول الكثير من سكّان أعالي القرية إلى أسفلها.. تحوّلت الاحتفالات إلى وسط القرية بجانب دارالمبروك بن علي غير بعيد عن دار الشبيبي القديمة... ثم إنها رُويْدا رُويْدا انتهت إلى زوال.

  

أبناء قريتي يستعدّون للعيد

 

قبل حلول العيد.. ولباسه النظيف الجديد يتحوّل الجموع من الشباب إلى العين القديمة، عين البلاد، لتهيئة ملابسهم بغسلها و نشرها على كثبان الرمال المحيطة بالقرية من كلّ مكان..

..هذه صخرة صمّاء مربّعة الشكل تلتصق بالأرض و متشبثة بها منذ أمد طويل .. يقصدها كل من أراد تنظيف ثيابه..ما ثقل من هذه الملابس كالبرانس و جبب الصوف و ما شابهها.. و ما خفّ منها كالقمصان و السّراويل القماشية.. مادّة الغسيل ماء ساخن.. توقد له النّار هناك وتنصب حول النار ثلاث من قطع الحجارة يوضع فوقها سطل نحاسي به ماء و فتامن قطع الصابون الأخضر..

..يبلّ البرنس الصوفي و يطوى ليوضع فوق الصخرة الصماء و هذا شاب يشمّر عن ساقيه و يديه و تراه بعد حين منتصبا يرفس المغسول برجليه و تسمع حينئذ صفيرا ينبعث كلما قفز الشاب و نزل برجل واحدة تارة و طورا برجليه مجتمعتين و يداه لا تنفك ممسكة بقضيب من جريدة خضراء يتوكأ عليها كلما دعت الحاجة إلى ذلك ولا ننسى و قوف الشّاب بيده ماعون يغرف به الماء المخلوط بالصابون و يدفعه بقوّة تحت رجلي الغاسل. تنتهي رقصة الشّاب و يأتي دور الدّلك باليدين.. يوضع البرنس بقصعة كبيرة من الحديد و يتحلق حولها ثلاثة من الشبان أو أربعة و يشرعون في دلك المغسول.. حتى ترى فقاقيع الصّابون تغطي الأيدي المتشابكة رغوة بيضاء تفيض على جنبات الجفنة المدوّرة.

و أخيرا.. يضاف الكثير من الماء ليتحوّل المغسول إلى لباس نظيف لامع البياض .. يذهب به أحدهم لينشر بعد ذلك على الزرب (سياج من جريد النخل) أو كثيب من الرّمل النظيف.

 

 

  

العين القديمة..أحسن مقيل

 

الظلال الوارفة تحت سقوف جريد النخل الملتف حول بعضه و المتشابك كأنّه خلق ليحمي هؤلاء الهاربين من حر الهجير داخل المنازل إلى برودة الظل الممدود و الماء المسكوب.



 

هذا المكان بالعين القديمة "عين البلاد" ملجأ للصغار و الكبار يفرّون إليه عند الحرارة هواجر الصيف فلا يتركون بالبيوت إلا الرّضع تصحبهم الأمّهات و الصّبايا يجلسن وراء المناسج يصنعن الملابس الصّوفيّة.. و قد تسمع أصوات النساء يغنّين بمختلف الألحان يزيدها دق "الخلالة" و نقرها خلال خيوط "الجدّاد" المشتبك "بالطعمة" حلاوةَ نغمةٍ و عذوبة ورقّةً..

الشبّان لا يضيّعون الوقت هدرًا و إنّما يغتنمونه لصنع السّعف المتّخَذ من قلوب النخيل فيتحوّل بعد الضّفر قفــَـافا و عدائل كبيرة و مراوح.. أبناء قريتي لا يعرفون شراء القفاف من الغير فهم يصنعون هذه القفاف من ضفائر السّعف و يخيطونها بمفتول اللّيف .. ومن هذا اللّيف تتخذ العرى والحبال.

من النخلة يستمدون كل حاجياتهم و لا ينزلون إلى الأسواق لشراء اللّوازم ثم يعودون بها في أكياس من البلاستيك الشّفّاف..

لا تجد كل الشبان مقبلين على هذه الصناعات التقليدية فهناك من تراه يروّح النفس ببعض الألعاب كلعبة "الكرد" و لعبة "السّيڤ" و "البنّاية".. و البعض الآخر قضى جزءا من الليل ساهرا على سقي نخيله و مزروعاته فتراه تمدّد ليأخذ قسطا من راحة النوم اللذيذ..

في الطرف الآخر من عين القرية ترى جمعا من الرجال قد جلسوا يتحادثون بأصوات يختلط بعضها ببعض في نقاشات حادّة و صراخ تحسبه عراكا و خصاما و يهدأ الصّخب.. و يأخذ الجميع طريقهم إلى جامع القرية.. أو نحو الدّيار حيث برد الطقس قليلا و انتهت القيلولة.



 


 
free counters

 

 


 
أنشر الموقع على الفيس بوك
 
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement